jeudi 5 septembre 2024

وصف الحداد في ورشته

وصف الحداد في ورشته 

 في ركن من أركان ورشته المليئة بالأدوات المعدنية القديمة، يقف الحداد كعادته كل صباح، يرتدي مئزرًا داكن اللون، يبدو عليه آثار سنوات من العمل الجاد. كان مشهده مألوفًا، بل ومألوفًا للجيران الذين يمرون أمام الورشة ويسمعون تلك الأصوات الرنانة التي تصدر عن مطرقته وهي تهبط بثقل على الحديد الساخن.

تتدلى خصلات شعره المبللة بالعرق على جبينه، في حين تتوهج عيناه بتصميم وعزيمة. أمامه قطع من الحديد المتوهج بلونه الأحمر اللامع، يخرجه من الفرن بحذر، ثم يبدأ في تشكيله بحركات دقيقة متناسقة. كل ضربة من مطرقته تكشف عن قدرته الفائقة على التحكم بالصلابة وتحويلها إلى فن. تراه يركز تمامًا على عمله، وكأن بينه وبين الحديد علاقة خاصة، حيث يتحاوران معًا بصمت، كل حركة تقوم بها يده تعبر عن فكرة جديدة أو شكل يريد ابتكاره.

كانت أصوات الطرق تتوالى بتجانس، تملأ المكان بإيقاع يشبه الموسيقى، تلك الموسيقى التي لا يسمعها إلا من اعتاد على هذه الحياة. تتطاير الشرارات في الهواء كلما انغرزت المطرقة في الحديد، لكنها لا تزعج الحداد؛ بل هي جزء من عالمه الذي أحبه منذ صغره. بين كل ضربة وأخرى، يأخذ الحداد نفسًا عميقًا، يمد يده إلى منشفة قديمة ليمسح العرق عن جبينه، ثم يعيد تركيزه سريعًا على عمله. كان واضحًا أن هذا العمل ليس مجرد مهنة لكسب العيش؛ بل هو جزء من هويته، جزء من روحه.

في أرجاء الورشة، تتناثر الأدوات الحديدية والآلات في أماكنها المعتادة، كأنها تنتظر دورها في هذا العرض الفني اليومي. يشعل الحداد النار مجددًا، ليعيد تسخين القطعة التي بدأ يفقد منها الحرارة، ثم يعود إلى الطرق بعزيمة أشد. كانت يده تتقن كل حركة وكأنها تعزف على آلة موسيقية، بينما تقوده خبرته الطويلة إلى إبداع شكل جديد من قطعة الحديد الخام.

خارج الورشة، يقف بعض الأطفال ينظرون بفضول إلى ما يفعله، منبهرين بالقوة والمهارة التي يبديها في عمله. يلتفت إليهم الحداد بابتسامة سريعة، ثم يعود ليركز على مهمته. لم تكن تلك الابتسامة مجرد رد فعل عابر، بل هي تعبير عن فخره بما يفعله، وعن الحب الذي يحمله لمهنته التي ورثها عن أبيه وجده.

ومع اقتراب النهاية، تظهر القطعة النهائية متألقة ومتقنة، تعكس جهد ساعات طويلة من العمل المتواصل. ينظر الحداد إليها بعينين تملؤهما الرضا، ويمرر يده الخشنة عليها بحنان كأنه يودع جزءًا منه فيها. في تلك اللحظة، يشعر بسعادة لا يعرفها إلا من أحب عمله وأبدع فيه. ربما كان الحديد باردًا في أيدي الآخرين، لكنه في يدي الحداد ينبض بالحياة، وكأنه يشكل رابطًا بين الماضي والحاضر، بين الأجيال التي مضت وتلك التي ستأتي.

وهكذا ينهي الحداد يومه، بإنجاز جديد يضاف إلى إرثه المتراكم، بينما يغلق ورشته الصغيرة بابتسامة هادئة، ويخرج إلى الشارع ليعود إلى بيته، تاركًا خلفه تلك الأصوات والشرارات لتستريح حتى الصباح التالي، حين يعود ليبدأ من جديد، ويواصل رحلته مع النار والحديد.



0 commentaires

Enregistrer un commentaire