انتاج كتابي حول عودة إلى الوطن بعد سنوات من الغربة
في إحدى أمسيات الصيف الهادئة، حيث كان نسيم البحر يلاطف وجوه المارة ويغمر المدينة برائحة الملح والحرية، تلقت عائلة السيدة حليمة رسالة طال انتظارها من ابنتهم ليلى، تلك التي غابت عنهم لسنواتٍ طويلة بحثًا عن مستقبل مشرق في بلاد الغربة. كانت حليمة تجلس على شرفة المنزل القديم، الذي يحكي جدرانه قصص العائلة وأسرارها، حين طرق ساعي البريد الباب، مقدمًا لها الرسالة. بيدين مرتعشتين فتحت حليمة الظرف، وعندما قرأت كلمات ليلى، شعرت أن قلبها ينبض كأنها تستقبل ابنتها في تلك اللحظة. كانت الرسالة تحمل بشرى العودة إلى الوطن، العودة إلى الحضن الدافئ بعد سنوات من الفراق.
لم تستطع حليمة كتم فرحتها، فنادت بأعلى صوتها: "ليلى عائدة!"، وهرع إليها باقي أفراد الأسرة؛ الأبناء، البنات، حتى الجد العجوز الذي كان يراقب المشهد من بعيد بابتسامة تحمل كل معاني الفخر والأمل. تحوّل البيت إلى خليط من الضحكات والدموع، كل منهم يعبر عن شوقه بعبارات بسيطة نابعة من القلب، وكأنهم كانوا جميعًا في سباقٍ مع الزمن لاسترجاع تلك اللحظات الضائعة.
مع بزوغ أولى أشعة الشمس في اليوم الموعود، كانت العائلة قد استعدت بكاملها للذهاب إلى محطة القطار. كان الجميع في حالة من الترقب والقلق، ارتدوا أجمل ما لديهم من ثياب، ولم ينسوا أن يحضروا باقة من الزهور ليقدموها لليلى كتعبير عن حبهم واشتياقهم. عندما وصلوا إلى المحطة، كان المكان يغص بالناس؛ بعضهم يودع أحبته بدموع الفراق، والبعض الآخر يستقبلهم بابتسامات الفرح والاشتياق. كانت المحطة أشبه بلوحة فنية تجمع بين مشاعر البشر المختلفة.
جلست حليمة مع أفراد عائلتها على أحد المقاعد، بينما كانت عيونهم تراقب عقارب الساعة التي تبدو وكأنها تسير ببطء شديد. كل دقيقة كانت تمر كأنها دهر من الانتظار، وكانت قلوبهم تخفق بشدة مع كل صافرة تصدرها القطارات القادمة.
وفجأة، شقّ صوت القطار القادم عن بعد أجواء المحطة، معلنًا وصول الرحلة التي كانت تقل ليلى. وقفت حليمة بسرعة، وبدأت تبحث بعينيها وسط الحشود، حتى لمحت وجه ابنتها بين الوجوه. تلك اللحظة كانت أشبه بحلم يتحقق، هرعت إليها واحتضنتها بشدة، وكأنها تحاول أن تعوّض عن كل لحظة غياب. كانت ليلى تحمل ملامحًا تغيرت بفعل الزمن، لكن عيونها لا تزال تحمل نفس اللمعة التي كانت تعرفها حليمة.
تحدثت الأم مع ليلى بصوت مملوء بالشوق، "كيف كنتِ؟ كيف مرّت عليكِ السنوات؟ هل كنتِ سعيدة أم أن الغربة كانت قاسية؟" كانت ليلى تحاول الردّ على كل تلك الأسئلة، لكن الكلمات كانت تتعثر في حلقها، فلا شيء يمكن أن يصف مشاعرها في تلك اللحظة. كان اللقاء مليئًا بالكلمات المتقاطعة، بالضحكات والدموع، بالذكريات التي تجمعت جميعها في تلك اللحظة.
عندما انتهى اللقاء الأول في المحطة، انطلقت العائلة في سيارة الأجرة عائدة إلى البيت. أثناء الرحلة، كانت السيارة تمرّ عبر أزقة المدينة القديمة، تلك التي كانت ليلى تعرفها جيدًا. فجأة، لفت انتباهها رجل مسنّ يقف في السيارة، يبدو عليه الإرهاق، وكأن جسده لم يعد يحتمل الوقوف. دون تردد، نهضت ليلى وقدّمت له مقعدها. كان الرجل ممتنًا لها بشدة، وكأن هذا التصرف أعاد له بعض الأمل في الإنسانية. حليمة، التي شاهدت الموقف من بعيد، شعرت بفخر كبير، وقالت بهدوء: "يا لابنتي! لقد تعلمت الكثير، لكن أخلاقك الطيبة لم تتغير أبدًا، رغم كل تلك السنوات."
حين عادت العائلة إلى البيت، كان الغروب قد بدأ يلون السماء بألوانه الدافئة. ليلى، التي كانت تتوق لرؤية كل زاوية من زوايا بيتها القديم، قررت أن تبدأ بحديقة المنزل. تلك الحديقة التي كانت شاهدة على أجمل أيام طفولتها، والتي كانت ملاذها الوحيد عندما كانت تحتاج إلى الهروب من ضغوط الحياة.
دخلت ليلى إلى الحديقة، وبدأت تسير ببطء بين الأشجار والزهور. كانت تشعر بأن كل زهرة وكل شجرة تهمس لها بحكاية من حكايات الماضي. اقتربت من شجرة الياسمين التي كانت تجلس تحتها دائمًا وهي تقرأ كتبها المفضلة، ولامست أوراقها بحنان. شعرت أن السنوات التي قضتها بعيدًا عن هذا المكان قد تبخرت في لحظة واحدة، وأن كل شيء قد عاد كما كان، وكأن الزمن لم يسر إلا خطوة واحدة إلى الأمام.
في تلك اللحظات الهادئة، أدركت ليلى أن الوطن ليس مجرد مكان نعيش فيه، بل هو ذكريات محفورة في قلوبنا، ومشاعر لا يمكن أن يمحوها الزمن، وحنين دائم إلى الجذور. شعرت بأنها قد عادت أخيرًا إلى مكانها الصحيح، وأنه مهما ابتعد الإنسان، سيظل القلب دائمًا يتوق إلى العودة إلى تلك الأرض التي احتضنته منذ ولادته.
كانت ليلى تسير ببطء في الحديقة، تستنشق عبير الزهور وتستمع إلى تغريد العصافير، وهي تفكر في كل ما مرّت به من تجارب وصعوبات. شعرت بأنها قد نضجت كثيرًا، وأن الغربة قد علمتها الكثير، لكنها أيضًا قد أكدت لها حقيقة واحدة لا تقبل الشك: أن لا شيء يعادل دفء الوطن وحب العائلة.
0 commentaires
Enregistrer un commentaire